عدنان شاكر
بدأت ملحمة مأساة الطفل ريان يوم الثلاثاء الماضي وانتهت فجر اليوم بانتقاله الى جوار ربه في جنات خلد عرضها السموات والارض .
صباح ذاك الخميس أمضاه كله يلعب في الداخل ، وعند الساعة الواحدة والنصف ظهرا خرج من البيت ولم يعد ، قبل أن تتأكد عائلته من أنه سقط فعلاً في البئر . بعدها بدأت رحلة الإنقاذ التي أطلقتها السلطات المغربية عقب بلاغ العائلة في ملحمة إنسانية قل نظيرها في تاريخ البشرية المعاصر ، والأصعب ما فيها أن عمق البئر يصل 32 متراً تحت الأرض ، وفوهته ضيقة جداً ، لا تتجاوز الـ 30 سنتمترا لا أكثر ، وكان والده قد حفر تلك البئر لأغراض الزراعة والفلاحة وبحثاً عن الماء .. في القاع ، بدا ريان منهك القوى ، هزيل البنية ، بالكاد يتحرك .. الوقت يتثائب في كسل نحو الثامنة صباح الجمعة الفائت ، وخيوط شعاع الشمس المذعورة تُسابق عتمة الليل الطويل ، لكنها لم تكن تحمل معها أي جديد واستمر الحال هكذ حتى فجر هذا اليوم الأحد ، حين تم اخراجه عبر النفق الذي جرى حفره بجهود جبارة عظيمة ، ولكن شاءت المشيئة الإلهية أن تسترد أمانتها .
من الخليج الى المحيط ومن البصرة الى تطوان ، أكثر من أربعة مائة مليون عربي ، تسمروا ليلًا ونهارًا أمام شاشات المحطات الأخبارية العربية ، إذ كانت أغلال المأساة تشد أرجلهم في المكان وتعطلهم عن الحركة حتى لو قرروا الهروب من وجهها ، يجدون الهروب يقربهم أكثر .. تاركين لعيونهم أجلها المدفون في عمق الشاشات .. يقلبون المحطات ليبرعم الأمل تارة أو ليتنامى الوجع من جديد .. كاميرات تصطاد صور الواقعة الأليمة ، وعيونهم تمشط الزوايا ، وقلوبهم المفطورة تخفق بالدعاء … دموع الأمهات ذرفت قهرًا عليه ، وعيون الرجال سجمت لمأساته دمعًا غاليًا ..
أمة بأكملها حشرت في تلك الحفرة ، وتعاطف العالم مع قصة الطفل العربي المغربي ذي الخمس سنوات تحت فضاء الانسانية الرحب .. قَدَّر ريان الذي خلق الملحمة ، إستطاع أن يوحد قلوب العرب جميعًا بعد أن فرقتهم صراعات السياسة والأيديولوجيا ومؤامرات الطامعين والمتربصين والعابثين .. وكأنها رسالة ربانية لحكامنا للاستيقاظ من غفلتهم ، بعد أن حشرت أجسادنا في أنفاق الحدود المصطنعة ، ولكن بقيت مشاعرنا متمردة ، عصية على الحَشْرِ والرَكمِ .. فيا حكام أمتنا العربية أعيدوا لنا هويتنا وعروبتنا ، واصنعوا وحدتنا ، فنحن أمة التوحيد ، أمة خلقت لتقود لا أن تقاد .
وداعًا ريان ، أيها الملاك العربي المرفرف في سماء الإنسانية .. وداعًا يا صديقي الصغير ، وسيبقى كل جبل في الأرض شاهداً على آلامك وأوجاعك ودمائك الطاهرة التي سالت .. وستذكرك البشرية وقد غدوت رمز التشبث بالحياة ، حين قاومت البرد والجوع والخوف والألم .. وسيذكرك التاريخ بأحرف من نور وندم ، وسيدخلك الله سبحانه من باب الرَيّان فأنت عند القدير الرحيم .
وداعًا حبيبي ريان من قلم يرثيك وعين تبكيك وقلب لا ينساك .